دور العنصر التاريخي في منهجية الاستنباط الفقهي

 دور العنصر التاريخي في منهجية الاستنباط الفقهي
احمد مبلغي

 خلاصة:
إن للتاريخ كياناً خاصاً, وقوامه بأن تحصل مراحل واحدة تلو الأخرى, وهذه المراحل تشكل كلها أمراً واحداً نسميه التاريخ. ففي التاريخ حلقات ومراحل, وعندما تمر فكرة ما بهذه المراحل، فسوف تتطور, حيث تجد في كل مرحلة تأريخية وضعاً خاصاً لها، فقد تطوّرها المرحلة التاريخية وتعمقها، وقد تضعفها، حتى إذا ما وصلت تلك الفكرة إلى المرحلة التالية تطورت، حسب اقتضاء هذه المرحلة، وما لها من تأثيرات عليها, وهكذا، فتصبح الفكرة بسبب مرورها بالمراحل التاريخية المختلفة شيئاً مسلّماً.
و المقصود من إدراج عنصر التاريخ في منهجية الاستنباط الفقهي ، لزوم المعرفة بالتطور التاريخي الحاصل حول قضايا وموضوعات الفقه والانطلاق منها إلي استنباط أحكامها؛ نظراً إلي أنّ الكثير من الحقائق التاريخية إذا أهملناها و لم نبحثها فسوف نصل إلى نتائج خاطئة في الاستنباط الفقهي.
يمكن أن نوجز دور الدراسة التاريخية في عملية الاستنباط فيما يلي :
1- الكشف عن النظريات الزائلة عبر التاريخ
بالرجوع إلى التاريخ يمكن الكشف عن النظريات التي لم تصل إلى أيدينا لأسباب معينة, إما لكونها كانت تشكل نظرية شاذة في ذلك الزمان والذين أتوا فيما بعد لم يأخذوا بها لهذا الاعتبار فأهملوها لخوفهم من انتشارها, أو أن الظروف السياسية ساهمت في إلغائها, وتغييبها عن الساحة العلمية, أو لسبب آخر. وفائدة هذا الكشف تفعيل النظرية أو تفعيل المناشئ المؤدية إلى بروزها.
 2- المساهمة في التقعيد:
إنّ العنصر التاريخي يساهم بشكل كبير في التقعيد لعملية التنظير. وأهمية هذا الدور من جهة أن الفقه قد توسّع في المسائل فقط ولم يتوسع على مستوى إنتاج النظريات الفقهية أو النظريات المرتبطة بعلم الفقه.
3- كسر الاطار الذهني المتجمّد في الفقه :
إنّ الاطلاع علي الحقائق التاريخية قد تتيح الفرصة للفقيه لكي يتمكن من كسر الإطار الذي ترسخّ في ذهنه, ويمنعه عن إي إبداع ، فكسر الإطار يجعل الفقيه يخرج ويتفطن لما يوجد خارج هذا الإطار , كما يعطيه حرية أكثر .
4- الفهم الدقيق للآراء الفقهية:
إن الاراء الفقهية قد لا تفهم الا في سياق قراءة التاريخ , فلابد من دراسة تطور الأفكار وكيف اعتمد اللاحقون على السابقين وكيف ساهمت هذه الأفكار في توليد الآراء المهمة في تاريخ العلم.
5-  معرفة تطور الكلمات والألفاظ المستخدمة في النصوص الشرعية:
لو كانت هناك كلمة ذات معنى في زمن الشارع، إلا أنها تطورت بحسب تطور الزمان والمجتمع, فزيد عنصر في معناها أو نقص, فتطور إلى معنى آخر, ثم زيد فيه عنصر آخر أو نقص, فتطور إلى معنى ثان وثالث ورابع وهكذا، حتى وصلت هذه الكلمة إلى زماننا وهي تحمل معنى جديداً, فنفهمها كأبناء لظروفنا ومجتمعنا وأفكارنا ومعارفنا بفهم معين، ونتخيل أن هذا المعنى الذي نفهمه منها هو بعينه المعنى الذي كان في زمان الشارع, فندعي أن الشارع استخدمها في المعنى الذي تحمله اليوم.

ورقة الكاملة:
الحمد لله رب العالمين والسلاةء والسلام علي سيدنا محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين
إن للتاريخ كياناً خاصاً, وقوامه بأن تحصل مراحل واحدة تلو الأخرى, وهذه المراحل تشكل كلها أمراً واحداً نسميه التاريخ. ففي التاريخ حلقات ومراحل, وعندما تمر فكرة ما بهذه المراحل، فسوف تتطور, حيث تجد في كل مرحلة تأريخية وضعاً خاصاً لها، فقد تطوّرها المرحلة التاريخية وتعمقها، وقد تضعفها، حتى إذا ما وصلت تلك الفكرة إلى المرحلة التالية تطورت، حسب اقتضاء هذه المرحلة، وما لها من تأثيرات عليها, وهكذا، فتصبح الفكرة بسبب مرورها بالمراحل التاريخية المختلفة شيئاً مسلّماً.
و المقصود من إدراج عنصر التاريخ في منهجية الاستنباط الفقهي ، لزوم المعرفة بالتطور التاريخي الحاصل حول قضايا وموضوعات الفقه والانطلاق منها إلي استنباط أحكامها؛ نظراً إلي أنّ الكثير من الحقائق التاريخية إذا أهملناها و لم نبحثها فسوف نصل إلى نتائج خاطئة في الاستنباط الفقهي.
يمكن أن نوجز دور الدراسة التاريخية في عملية الاستنباط فيما يلي :

1- الكشف عن النظريات الزائلة عبر التاريخ
طُرحت في الماضي بعض النظريات في المجال الفقهي من قبل عدد من الفقهاء، كما حصلت بعض التوجهات والتجارب الفقهية في بعض المراحل التاريخية؛ لكنّ هذه النظريات أو التوجهات أو التجارب المذكورة لم يُكتب لها الاستمرار في تاريخ الفقه. ومن الطبيعي أن دراسة تاريخ الفقه وتحليله من شأنه كشف النقاب عن هذا الضرب من النظريات والتوجهات والتجارب الفقهية التي مُسحت من الأذهان. ولا شك أن طرح هذا الذي مسح من الأذهان من جديد قد يفضي الى إحداث تحول عظيم في الفقه، خاصة وأن الفقه اليوم يواجه مسائل في غاية الأهمية، فقد يكون تفعيل تلك النظريات والتوجهات خير وسيلة لتطوير الفقه والقضايا المتعلقة بالزمن، فلو لم يُدرس تاريخ الفقه لبقيت تلك النظريات والتجارب في غياهب الجهل ولظلت محجوبة الى الأبد؛ وعليه فالفائدة المتوخاة من دراسة تلك النظريات والتوجهات هي كشف النقاب عنها وإظهارها الى الأضواء.
فعلى سبيل المثال، حدث تقسيم في بعض المراحل التاريخية بين علم الفقه وفنون الفقه، ولطالما بقي هذا التقسيم سائداً بين الفقهاء لبضعة قرون في مجال التأليف والتدريس. فذهب هؤلاء الفقهاء الى أن الفنون الفقهية عبارة عن سلسلة من المهارات في الفقه، بحيث إن إبرازها بصورة منفصلة وتخصيص بعض الكتب والدراسات والتوجهات الدراسية بتلك المهارات يوجِد لدى الفقيه قابليات واستعدادات كبيرة في مجال الاستنباط أو على صعيد المواجهات العلمية.
ويمكن أن نمثل للفنون الفقهية بفقه الخلاف، فقه الوفاق، الفقه المقارن، الفقه الافتراضي، فقه الألغاز، القواعد الفقهية والفروق. ولا إشكال في أن هذه الفنون لم تعد اليوم مطروحة في الأوساط الفقهية، بل يمكن القول: إن أكثرها مجهولة في الوقت الراهن؛ أي قد تمّ تهميش هذه الفنون الفقهية في إطار التحولات التاريخية لأسباب يجب بحثها والوقوف عليها، واليوم – وقد بات الفقه بحاجة ماسّة الى التخصص الذي قد يتبلور في التوجهات الفقهية المختلفة – فإن طرح تلك الفنون الفقهية وتفعيلها يقع على قدر كبير من الأهمية.
وفيما يلي نعرض لبعض ما لجملة من الفنون الفقهية من آثار علي موقع الفقه في الوضع الراهن :

أولاً : الفقه المقارن:
لا شك أنّ علي المجتمع الاسلامي المعاصر إعادة قراءة ميراثه المشترك وتنشيطه بغية انتهاج مسيرة إحياء الحضارة الإسلامية وخلق الظروف الاجتماعية التي تليق بشأنهم، وتحقيق مثل هذه المهمة بحاجة إلي البرمجة والتخطيط وبذل جهود علمية مشتركة بين السنة والشيعة، ولا شك أنّ من جملة الجهود التي تمهد الطريق في هذا المجال، عملية تفعيل الفقه المقارن وإعادة العمل به؛ حيث إنّه يعدّ مهارة بوسعها تمتين المناخ لهذا التعامل العلمي وسوقه الى الأمام ومنحه الإطار اللازم؛ حيث إنّه نمط من الدراسة يخدم الوحدة الإسلامية من جهة أنّها ذات هوية تقريبية مقترنة بالمسامحة وتجنّب العصبية المذهبية.
وتجدر الإشارة إلي أنّ الفقه المقارن يعدّ علماً ذا سابقة عريقة في تاريخ الفقه الإسلامي ، وقد مرّ بمراحل متفاوتة من مد وجزر ، وبتجاذبات مختلفة ، فتارة ينشط ويكتسب رونقاً، وأخري يقلّ نشاطه ويخفت رونقه.
وينبغي الاقرار بأنّ الفواصل بين النشاطات التي أضفت لوناً للفقه المقارن – ولو في الفترات التي بلغت النشاطات فيها أقصاها- كان كثيرة ، ولذلك فإنّ الفقه المقارن قد استوعب فترات مجهولة ، وسعة كبيرة غير معلومة لم يستحصل الكثير منها.
إنّ تفعيل هذا الاستيعاب ورفع مستوي هذا الفنّ الفقهي إلي المطلوب بحاجة إلي توفير وإنجاز مقدمات خاصة علي الصعيدين: العلمي والعملي.
والدراسات التاريخية تعدّ جزءاً من هذه المقدمات ، وإذا جرت البحوث التاريخية فسوف تتكشّف تلك الأبعاد والزوايا المجهولة ، وتتضح معالمها بشكل أفضل ، فتأخذ موقعما الجادّ ومكانتها العلمية في الفقه.
والحقيقة وإن بدأ في الآونة الأخيرة الاهتمام بالفقه المقارن من الناحية العملية، إلا أنه يجب الإذعان بأن قواعد وأسس الفقه المقارن الموجود بالفعل، بل والإطار والفضاء الحاكم عليه أيضاً، ليس علمياً.

ثانياً : فقه الخلاف:
لا يفوت أحداً أنّ هناك فروقاً بطن فقه أهل السنة وفقه الإمامية، والسؤال المهم الذي يطرح هنا هو: من أين نشأت هذه الفروق ؟ وهل أنّ الاختلاف بين تشكيلة الفقه الشيعي والسني يبلغ حدّاً يمكن إسناده إلي الاختلاف بين المباني والأصول المعتمدة لديهما، أم يمكن إرجاعه إلي تأثير الوسائل المستخدمة في عملية التفكيك؟
يحتل البحث التاريخي في هذا المقام مكانة مهمّة ؛ حيث يساعد علي كشف الأجوبة لهذه الأسئلة .

ثالثاً : الفقه الافتراضي:
 إن الفقه الافتراضي اليوم – ونحن نقف على أعتاب الورود الى أجواء العولمة وسيرورة العولمة – يمثل آلية جادّة ونافعة؛ كيما نتمكن من إدراج ما لم يحدث بعدُ في مدار افتراضاتنا، وهذا لا يتم إلا بامتلاكنا لمهارة الفقه الافتراضي، والذي يعدّ مهارة مفقودة في وقتنا الحالي.
رابعاًً: الفروق:
باتت الحاجة ملحّة الى التخصص في الفقه وتصنيف مسائله المتشابهة بحسب الظاهر إلى أقسام عدّة وإيجاد فروع فقهية مختلفة، وفن الفروق ممّا يقع على عاتقه مهمّة تمهيد الأرضية لهذا الأمر الحساس؛ حيث يهب الفقهاء مهارات خاصة في هذا المجال.
بناء على ذلك، فإن دراسة تاريخ الفقه يمكنها إطلاعنا على تلك المهارات والفنون الفقهية، والكشف عن جزئيات التجارب التي ظلت حبيسة في ثنايا التاريخ، ووضعها تحت تصرف الجيل الجديد، وهكذا فإن تفعيل دراسة التاريخ ستعرّفنا على النظريات والآراء والنقاط الدفينة بلا ريب.
كما أن إحدى النتائج المترتبة على دراسة التاريخ وتأسيس علم التاريخ وتعميق المباحث في هذا المجال هي تسليط الفقيه على التحولات والتطورات الجارية في مسار التاريخ والتي تطال المفردات والألفاظ الواردة في الروايات والنصوص، وبالتالي إثبات أن ما يفهمه الفقيه اليوم من تلك المفردات غير ما كان مراداً منها في زمن صدور النص، فمن الطبيعي أنه يجب علينا حين مواجهة الألفاظ في النصوص السعي لفهم مراد الشارع منها، والتوصل الى الحكم الشرعي في نهاية المطاف.
وعلى هذا الأساس، لو كان مراد الشارع هو المعيار والمقصود فإن دراسة التاريخ تغدو أمراً ضرورياً؛ ذلك أنه لو لم تجر تلك الدراسة فإن الفقيه سيفرض على الرواية فهمه الذي هو وليد الظروف التي يمرّ بها وتواجهه في مسيرة حياته، وبالتالي فإن ما يُفهم منها ليس هو مراد الشارع؛ إذ أن أغلب الألفاظ قد مرّت في مسيرة من التحول وامتداد الزمن، فلا يراد منها ما وضعت له. ثم إن هذا التحول قد يكون تحولاً أدى الى تغيير مفهوم اللفظ بشكل كلي، أو منح أبعاداً وعناصر أخرى الى المفهوم الأصلي للفظ، أو سلبه إياها. فعلى كل حال، أحدث فيها بعض التغييرات.
وعلى هذا الأساس، تعتبر دراسة التاريخ شرطاً من شروط الاجتهاد في النصوص لمتابعة تحول وتطور الألفاظ والمفردات المختلفة؛ لأنه لا ضمانة من دونها في اعتماد مفهوم خاص في الاستنباط غير المفهوم المراد من قبل الشارع، والإفتاء في ضوئه، ومع هذا الاحتمال يصبح من الضروري القيام بتلك الدراسة.

وخلاصة القول : أنّه بالرجوع إلى التاريخ يمكن الكشف عن النظريات التي لم تصل إلى أيدينا لأسباب معينة, إما لكونها كانت تشكل نظرية شاذة في ذلك الزمان والذين أتوا فيما بعد لم يأخذوا بها لهذا الاعتبار فأهملوها لخوفهم من انتشارها, أو أن الظروف السياسية ساهمت في إلغائها, وتغييبها عن الساحة العلمية, أو لسبب آخر. وفائدة هذا الكشف تفعيل النظرية أو تفعيل المناشئ المؤدية إلى بروزها.
2- المساهمة في التقعيد:
إنّ للدراسات التاريخية دوراً هامّاً في عملية التنظير الفقهيّ، ذلك أنّ النظرية الفقهية عبارة عن وصفٍ كلّيٍّ لرؤيةٍ تشريعيّةٍ تتحدّد بموجبها الأحكام الفقهية المتنوّعة. ولا ريب أنّ إبداع نظريةٍ ما متوقّف على الإطّلاع على بعض الأمور؛ مثل الإطّلاع على الآيات القرآنية، بما فيها الآيات المتّصلة بالمجال العقائدي والأخلاقي، بالإضافة إلى الوقوف على الأحاديث والسيرة والسنّة وكثيرٍ من العلوم الأخرى، حتّى غير الفقهية منها. وعليه، فالإطّلاع على هذه العلوم والإلمام بها يلعب دوراً مصيرياً في عملية التنظير في المجال الفقهيّ.
ومن جملة المعارف المؤثّرة في صقل وبلورة التنظير هي المعارف التاريخية؛ فلو كانت معرفتنا بالتاريخ معرفةً إجماليةً ومختصرةً وغير دقيقةٍ لآل بنا الأمر إلى التوصّل إلى استنباطاتٍ غير صائبةٍ ولا دقيقةٍ في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، إذا ما أردنا تقييم العلاقة بين المذاهب الإسلامية وتسليط الضوء على طبيعة التعامل فيما بينها، فمما لا شكّ فيه أنّ ذهابنا إلى الحكم بالتقريب بينها ولزوم التعامل البنّاء، أو إقصاء بعض تلك المذاهب عن دائرة الإسلام، نابع ومتأثّر من تلك المعطيات التاريخية. وبعبارةٍ أخرى: لو لم نحط علماً بالروابط السائدة في المجتمع الإسلامي والأمّة الإسلامية التي تمثّل واقعةً تاريخيةًَ، وكانت نظرتنا إلى التاريخ لا تعدو عن النظرة إلإجمالية، فربّما نبتلى بالإنحراف، ونطرح استنباطاتٍ غير صحيحةٍ في المجال الفقهيّ.
وعلى العكس من ذلك، لو كانت لدينا إحاطة تامّة ودقيقة بالتاريخ لكان بمقدورنا إبداع نظرياتٍ فقهيةٍ حديثةٍ. ومن ذلك نظرية الأمّة وتشكيل الأمّة؛ فلا يمكن أن تتجسّد لدينا رؤية صحيحة عن الأمّة إلا من خلال دراسة التاريخ والعلاقة بين أفراد المجتمع في عصر النبي الكريم (ص) أو الصدر الأول من منظار الآيات القرآنية والأحاديث، حينئذٍ يمكن إدراك نظرية الأمّة كما ينبغي. فلما شُيّدت أركان نظرية الأمّة أعانتنا على استنباط الأحكام المتصّلة بتعامل المسلمين مع بعضهم البعض، ومكّنتنا من صياغة فقهٍ متوازنٍ في هذا المجال بصورةٍ أفضل.
هذا، في حين لو لم نأخذ بنظرية الأمّة لأمكن حين الإستنباط أن يقوم كلّ شخصٍِ بتكفير المذاهب الأخرى سوى مذهبه، بل والإفتاء بجواز قتل أتباع تلك المذاهب، ولو تحت ذرائع مختلفة. وعلى هذا الأساس، فإنّ الدراسات التاريخية قد تمنحنا القدرة على التنظير، ومن ثمّ تقوم النظريات المبتكرة بمساعدتنا على التوصّل إلى الأحكام الفقهية المنشودة.
إنّنا في الحقيقة نرى أنّ استنباط نظرية الأمّة عبارة عن نظريةٍ فقهيةٍ؛ لأنّ نظرية الأمّة تستبطن مجموعةً من الأحكام الفقهية. وبصياغةٍ أخرى يمكن القول: تعتبر نظرية الأمّة بمثابة مظلّةٍ تغطّي كافّة الأحكام الفقهية الخاصّة بتعاطي المذاهب الإسلامية مع بعضها، فهي بذلك تشكّل روح تلك الأحكام وليست بخارجةٍ عنها. ومن ناحيةٍ أخرى، الشخص غير الواقف على تاريخ الأحكام الفقهية غير قادرٍ على طرح مثل هذه النظرية، وحتّى لو قام بطرح نظريةٍ ما فلا ضامن لأهليتها وصلاحيتها. وعلى هذا الأساس، ذهبنا إلى كونها نظريةً فقهيةً، غير أنّها ليست من الضروريات، بل أطلق عليها اسم "نظرية الأمّة"، وهو توصيف لما أخذه الشارع بعين الإعتبار وطرحه في هذا المجال ولاحظه في مورد الأحكام.
وصفوة القول: أنّ العنصر التاريخي يساهم بشكل كبير في التقعيد لعملية التنظير. وأهمية هذا الدور من جهة أن الفقه قد توسّع في المسائل فقط ولم يتوسع على مستوى إنتاج النظريات الفقهية أو النظريات المرتبطة بعلم الفقه.

3- كسر الاطار الذهني المتجمّد في الفقه :
ومن الفوائد الأخرى لدراسة التاريخ إيجاد قابلية كسر الأطر المهيمنة على ذهن الفقيه؛ ليتمكّن في نهاية المطاف من السير تجاه الإبداع والتجديد. فكثيراًَ ما يكون الفقيه مقيّداً بأطرٍ خاصّةٍ ورثها من توجّهات وآراء من سبقه من الفقهاء دون أن يشعر بذلك؛ إذ كان لهؤلاء الفقهاء اجتهاداتهم واستنباطاتهم الخاصّة، فأوجدوا مناخاً خاصّاً، وجاء هذا الفقيه المعاصر ليجد نفسه مؤطّراً بتلك الأطر ومتحرّكاً في ركب مسيرتهم، حتّى لم يعد يلوي على وضع قدمه خارج هذا المسار المرسوم سلفاً والناشيء من عقلية الفقهاء المتقدّمين. وفي مثل هذه الحالة، تتضاءل فرص الإبداع إلى أدنى المستويات؛ لأنّ هذا الشخص يتحرّك بتلك العقلية المحدودة، ويفتقر إلى إمكان الإلتفات إلى بروز وضعٍ جديدٍ، إلا أن يُفسّر هذا الوضع الجديد في إطار أفكار العلماء السابقين.
إنّ ما يمهّد الأرضيّة للإبداع هو مطالعة الفقيه للتاريخ وإحاطته به، حيث يتمكّن بمطالعة التاريخ وتحليل تاريخ الفقه من كسر حاجز الزمن والإنتقال إلى الأزمنة الماضية، زمن تطوّر تلك الأفكار، بل والزمن السابق لتكوّن الأفكار المتعلّقة بالمرحلة التي سبقته، كما يسعه معرفة مناشيء تلك الأفكار بصورةٍ جيّدةٍ والحصول على القدرة على تقويم وتحليل الأفكار، وتشخيص سليمها من سقيمها، والوقوف على أسباب نشوء الأفكار المختلفة، وتحديد مناهلها ومصادرها، واكتساب القدرة على معرفة مبدأ الأفكار وظروف تكوّنها وملابسات ولادتها، من قبيل نزوع فقيهٍ ما إلى الإحتياط، أو تبنّيه لأفكارٍ معيّنةٍ بفعل وقوعه تحت تأثير ظروفٍ زمنيةٍ خاصّةٍ، أو عدم امتلاكه أصالةً فقهيةً. وبهذا، يكتسب رؤيةً شفّافةً ونظرةً ثاقبةً.
في هكذا ظروفٍ يتفتّح ذهن الفقيه، فيسعى للتأمّل في ما ورثه من نظرياتٍ ودراسة نظريات الخصوم، ويطرح رؤاه في أجواءٍ إيجابيةٍ تساعد على مزيدٍ من الإبداع والإبتكار. ومن هنا، يمكن القول: إنّ إشكالية عدم الإبتكار وعدم الإبداع في الفقه، لا سيّما الإبداعات المؤثّرة والفاعلة، هي أنّنا نسير على سكّة القطار الثابتة والطريق المرسوم سلفاً الذي يستمدّ نوره من عقلية الفقهاء السابقين. ولا يتسنّى إحداث تغييرٍ في هذا المجال إلا من خلال دراسة التاريخ وتحليل جميع مفرداته بدقّةٍ متناهيةٍ.
وخلاصة القول: أنّ الاطلاع علي الحقائق التاريخية قد تتيح الفرصة للفقيه لكي يتمكن من كسر الإطار الذي ترسخّ في ذهنه, ويمنعه عن إي إبداع ، فكسر الإطار يجعل الفقيه يخرج ويتفطن لما يوجد خارج هذا الإطار , كما يعطيه حرية أكثر .

4- الفهم الدقيق للآراء الفقهية:
ومن جملة الفوائد الأخرى المترتّبة على دراسة التاريخ إمكان التعرّف على الآراء الفقهية بصورةٍ أفضل وبشكلٍ أكمل. فتارةً يكون لنا قراءة خاصّة وردّ فعلٍ معيّنٍ حول الآراء الفقهية حين مواجهتها، والحال أنّنا لو تسلّحنا بمطالعة التاريخ لتمكنّا من الإطّلاع على إضبارة الآراء الفقهية للفقهاء المذكورين بصورةٍ صحيحةٍ، ولكان بوسعنا تبويب تلك الآراء الفقهية لآولئك الفقهاء، ولاستطعنا مقارنتها ببعضها البعض، والوقوف على مضمونها وماهيتها، ولنبذنا حالة الجمود والتعبّد إزاء الآراء الموجودة، ولأدركنا وجود أكثر من رأيٍ في الموضوع الواحد، وأنّ لها مناشيء ومشارب مختلفة.
وفي ظلّ هذه الأجواء، يكون الإنسان قادراً على فهم الآراء فهماً دقيقاً، بل لا يتيسّر الدخول في المناخات التي توفّر فرصة المقارنة بين الآراء الفقهية المتنوّعة إلا من خلال دراسة التاريخ دراسةً مستفيضةً ووافيةً، ما يرفع من القدرة على الإختيار في أجواء المقارنة المشار إليها.
بناءً على ذلك، قد يذهب بعض العلماء المعاصرين إلى تفسير آراء الفقهاء الماضين ضمن توجّهٍ خاصٍّ، ولا ريب أنّنا لو كنّا مكانهم ولم نكن على درايةٍ بمجريات التاريخ لذهبنا إلى ما ذهبوا أيضاً؛ بينما لو كنّا قد درسنا التاريخ لاستطعنا تحليل آراء العلماء الماضين بصورةٍ أفضل، فآراؤهم تشكّل جزءً من الفقه، والإطّلاع عليها بشكلٍ كاملٍ وصحيحٍ يسوقنا في الحقيقة إلى معرفة العلم أكثر فأكثر.
والخلاصة أن الاراء الفقهية قد لا تفهم الا في سياق قراءة التاريخ، فلابد من دراسة تطور الأفكار وكيف اعتمد اللاحقون على السابقين وكيف ساهمت هذه الأفكار في توليد الآراء المهمة في تاريخ العلم.

5-  معرفة تطور الكلمات والألفاظ المستخدمة في النصوص الشرعية:
إنّ بيان المقصود من المفردات أمر ضروريّ للغاية ويقع على قدرٍ كبيرٍ من الأهميّة، ويعدّ من جملة مباديء البحث العلمي، سيّما مع وجود بونٍ زمنيٍّ شاسعٍ يفصل بين زمن صدور النصّ وحدوث عملية الاستنباط منه. وتتجلّى هذه الضرورة في أنّ لبعض المفردات مفاهيم فضفاضة وذات أبعادٍ مختلفةٍ، حيث يبرز ذلك إلى الواقع الخارجيّ بمرور الزمن وتعاقب العصور، بالإضافة إلى مواجهة تلك الألفاظ لشروطٍ وظروفٍ متفاوتةٍ، حيث تطفو إلى السطح قراءات مختلفة لها في الحقب الزمنية المتعاقبة.
وعلى الرغم من تلك الحقيقة، جرت العادة على اعتبار المفردات الداخلة في عملية الإستنباط في المراحل الزمنية الفائتة حاكيةً عن تلك المفاهيم التي تتبادر إلى الأذهان اليوم عند سماع المفردات المذكورة. ولا شكّ أنّنا بذلك نفقد في بعض الأحيان فرصة الفهم الدقيق والصحيح للمفاهيم المرادة في الأزمنة السحيقة.
وفي دائرة الإستنباط ـ حيث يشكّل الإلتزام بمفاهيم الألفاظ المذكورة في النصوص العمود الفقري لعملية الإجتهاد ـ يؤدّي عدم التدقيق في التطوّر التاريخيّ للمفردات إلى عدم الإدراك الصائب والصحيح للرواية.
وحينئذٍ، يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: ما المراد من التطوّر التاريخيّ للمفردات؟
يمكن القول بأنّ تطوّر المفردات عبارة عن تأثير وانعكاس الزمن على مفهوم المفردة، وهذا التأثير على نوعين:

النوع الأول:
 هو تفاوت الفهم والقراءة بالنسبة إلى مفهوم المفردة دون حدوث تغيير في تعريفها المفهوميّ. وهذا التطوّر ـ خلافاً للنوع الثاني ـ ذو ماهيّةٍ خفيّةٍ، وفي الحقيقة بدلاً من إحداثه إشكاليةً في ذهن المخاطب ودفعه إلى مزيدٍ من البحث والتحرّي، يتوافق مع ذهنه وفهمه وأدبياته، بل وأسلوبه العلميّ أيضاً.
وعلى هذا الأساس، فإنّ هذا النوع من التطوّر يعدّ بمثابة حدثٍ تاريخيٍّ عظيمٍ في الأدبيات، ومما يلازم المفردات دائماً. حدث ينهل من الماهيّة المتطوّرة والمتكاملة للحياة الإجتماعية ومدى ارتباطها بالمفردات والأدبيات؛ أي تبرز عوامل متفاوتة في كلّ مرحلةٍ من المراحل التاريخية في إطار توجيه الأذهان، ما يفضي إلى إحداث تحوّلٍ في فهم الإنسان للمفردات. وبعبارةٍ أخرى: يكون معنى المفردات في ذهن المخاطبين في المراحل التاريخية المختلفة في هذا النوع من التطوّر عرضةً للتغيير، فيطال التحوّل المستويات المختلفة للمفردات المذكورة.
وعلى أساس ذلك، يظهر تبادر عرفيّ متفاوت للمفردة الواحدة في الزمن الماضي عنه في الزمن الحاضر؛ فالتبادر العرفيّ للمفردة في الزمن الماضي ناشيء عن الإدراك الذي تعكسه الماهيّة البسيطة لذلك المفهوم في تلك الحقبة، والتبادر العرفيّ لهذه المفردة نفسها في الزمن الحاضر يتبلور في بنيةٍ أدبيةٍ مماثلةٍ لمفرداتٍ أخرى، ومن المحتمل أن تكون قد وقفت إلى جانب تلك المفردات أو إلى جانب بعضها في الماضي، ما يؤول إلى خصوصياتٍ إجتماعيةٍ أكثر تعقيداً.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ إدراكنا لهذه المفردة قد امتزج بمسيرتها التاريخية، في حين أنّ القدماء لم يروا تلك المسيرة قطّ. هذا، في الوقت الذي لم يتغيّر التعريف الكلاسيكيّ واللغويّ لمفهوم تلك المفردة على مرّ التاريخ.
وفي مجال استنباط الأحكام الفقهية حيث يكون لفهم المراد من المفردات مكانةً حسّاسةً يعتبر هذا التطوّر المفهوميّ في غاية الخطورة. فأبرز الأمثلة لتوضيح هذا الدور الكبير المسيرة التي قطعتها مفردتي "عبيد" و "إماء". ففيما مضى كان يُنظر إلى العبيد والإماء نظرةً سلبيةً في المجتمع، في حين شهدت نظرتنا اليوم إلى الاستعباد تحوّلاً ملموساً.
ومن الجليّ أنّ هذا التطوّر والتحوّل ليس تحوّلاً مفهومياً منتهياً بتغييرٍ في التعريف الإصطلاحيّ واللغويّ نظير ما يلاحَظ في النوع الثاني؛ ذلك أنّنا لو راجعنا المعاجم اللغويّة الحديثة أو عدنا إلى التبادر العرفيّ الفعليّ لما وجدنا أكثر من التعريف المفهوميّ الذي وضعه القدماء إلى هاتين المفردتين في كتب اللغة.
على أنّ دراسة مدى تأثير هذا التطوّر على عملية الإستنباط بحاجةٍ إلى بحوثٍ جادّةٍ تقع على عاتق الأصوليين والفقهاء.

النوع الثاني:
 هو أن يختلف معنى المفردة الواحدة في مرحلتين زمنيتين متباينتين بحيث يصدر لهما تعريفان متفاوتان. وهذا التغيير في الإطلاق العرفيّ للكلمة إنّما يظهر في مفهومها، ويمكن التوصّل إليه من خلال إلقاء نظرةٍ تاريخيةٍ فاحصةٍ إلى مقتضيات استخدامها في الموارد المختلفة، نحو كلمة "الإجتهاد" التي قطعت مسيرة التطوّر التاريخيّ في غضون القرون الماضية.
وبرغم أنّ هذا اللون من التطوّر قابل للاستكشاف إلا أنّ سبل الحصول عليه في غاية التعقيد والغموض، الأمر الذي يتطلّب دراساتٍ علميةً مستفيضةً. ولمزيدٍ من الإيضاح نقول: إنّ ظواهر اللغة والكلام تتطوّر وتتغيّر تبعاً لتقدّم الزمن، وبالتالي وفقاً للعوامل اللغوية والفكرية والإجتماعية المؤثّرة. وعلى هذا الأساس، قد يكون معنى اللفظ في عصر الصدور مختلفاً عنه في عصر الإستنباط من الحديث.
ولفهم ودرك هذا التحول نتائج كبيرة تنعكس في الفقه جداً ، ومن هذه النتائج النتيجتان التاليتان:
الأولي: تعيين وتحديد الرجوع إلي العرف في تشخيص موضوع الحكم:
ولتوضيح ذلك نقول: أنّه ارتكز لدى الكثير من الفقهاء والأصوليين لزوم الرجوع في فهم موضوع الحكم وتشخيصه إلى العرف، وقد ساد هذا المبدأ في الفقه وفي منهج الاستنباط؛ ونحن لا ننكر صحة هذا المبدأ إلا أنّ الكلام في سعة دائرة هذا الرجوع .
والحقيقة أنّ هذا المبدأ له مجال خاص، وهو مجال الموضوعات الواردة في كلام الشارع والنصوص الشرعية, إذ لا بد لنا من أن نرجع في تشخيص وفهم المراد من تلك الموضوعات إلى العرف الذي  كان في زمن الشارع ، فإنه هو المرجع في ذلك, إلا أن المشكلة أنّ هذا المبدأ قد تحول إلى مبدأ ساد في الفقه كله، بحيث أصبحنا نتصور أن كل موضوع لا بد أن نرجع في فهم معناه إلى العرف، فأدرجنا ـ من حيث نشعر أو لا نشعر ـ الموضوعات المستجدة تحت هذه الدائرة, فلا نحسب لقول المتخصص ورأيه في تلك الموضوعات حساباً.
وعليه، فإن هذا المبدأ غير منقح، وإن كانت جذوره سليمة كما أشرنا.
الثانية:  تصحيح مبدأ آخر حول تعيين مراد الشارع من موضوع الحكم:
هناك مبدأ آخر ساد هو في الفقه أيضاً ، وهو المبدأ القائل بأن المعنى الذي نفهمه من موضوع الحكم الوارد في نص شرعي هو بعينه المعنى الذي كان موجوداً في زمن الشارع.
فأصحاب هذا المبدأ يدّعون أن المعنى السابق للموضوع قد استمر بعينه حتى وصل إلينا، بلا أي تغيير قد طرأ عليه.
وهذا المبدأ لا يمكن قبوله أيضاً، بمعني أنّ الكلمة التي هي ذات معنى في زمن الشارع، لا بد من نعترف بأنها تطورت أحياناً بحسب تطور الزمان والمجتمع, فزيد عنصر في معناها أو نقص, ثم تطورت إلى معنى آخر, ثم زيد فيها عنصر آخر أو نقص, فتطورت إلى معنى ثان وثالث ورابع وهكذا، حتى وصلت هذه الكلمة إلى زماننا وهي تحمل معنى جديد, فنفهمها كأبناء لظروفنا ومجتمعنا وأفكارنا ومعارفنا بفهم معين، ونتخيل أن هذا المعنى الذي نفهمه منها هو بعينه المعنى الذي كان في زمان الشارع, فندعي أن الشارع استخدمها في المعنى الذيي تحمله اليوم.
وقد ذكر البهبهاني في مسألة تغير معاني الألفاظ كلاماً تجدر الالتفات إليه، يقول:
" لاشبهة في تغير اصطلاح زمان الشارع بالنسبة إلي كثير من الألفاظ والعبارات، فإن كثيراً منها يقيني أنّه ليس اصطلاح زمان الشارع ، مثل الرطل والأوقية وأمثالهماوهي كثيرة تجده بالتتبع والملاحظة....
ومنها: مظنون أنّه ليس باصطلاح زمانه ، مثل لفظ السنة والفرض ، وأمثالهما ، وهي أيضاً كثيرة.
ومنها : مشكوك كونها كذلك، مثل لفظ الوجوب والطهارة والنجاسة وأمثالها، وهي أيضاً كثيرة.
ومنها: مظنون أنّه كذلك، مثل لفظ صيغة "افعل: وغيرها، وهي كثيرة.
ومنها: متيقّن أنّه كذلك، مثل لفظ "الماء" و"الأرض" و" قم" وأمثالها،؛ وهي أيضاً كثيرة.
وجميع هذه الشقوق يفهمها العربي علي وفق اصطلاح زمانه من دون تمييز وتشخيص، واطمئنانه بالنسبة إلي الكل علي السوية."[1] 

6- الكشف عن المسلمات الفقهية :
غير خفي علي أحد وجود بعض المسائل التي تدرج ضمن المسلمات الفقهية، إلا أنّ ذلك ينبغي إخضاعها للبحث العلمي الدقيق ، والتحقق من ثبوتها ووجودها عبر المطالعات التاريخية.
وتتضح أهمية هذا البحث حينما ندرك الدور الحساس والفاعل الذي تلعبه هذه المسلمات الفقهية في ميدان الاجتهاد، حيث إنها في الواقع – إضافة إلي كونها بمثابة منطلقات وركائز للمجتهد- تشكل أشبه بالخطوط الحمراء في عملية التفكير والنظر في مجال الفقه والاجتهاد، وتحافظ علي سير هذه العملية من التجاوز والوقوع في الغلط .

 7- تعيين كيفية المواجهة الصحيحة مع آراء الفقهاء السلف:
إنّ عنصر "التركيز علي رأي السلف" مما قد أثّر في الفقه, إلا أننا تركنا هذا الأمر الهام الذي له خطورة وتأثير محوري وفاعل جداً في فقهنا على حاله، مع أنّه ليس من المعقول تركه على حاله، بل لا بد من دراسته.
ودراسة هذا الموضوع فلسفية من جهة وتاريخية من جهة أخري ، وهذه الدراسة بكلي شقيها تنتهي بنا إلي أن نفهم المقدار الصحيح من الالتزام بالسلف، وأن نحدد الدائرة المنطقية، والمعايير الخاصة في تبنّي آرائهم .

8- الاكتشاف عن الافكار المسبقة للفقهاء الماضين:
إنّ الوقوف علي تاريخ تطور المسائل الفقهية تتيح لنا أن نتمكن من اكتشاف الأفكار المسبقة للفقهاء الماضين الذين انطلقوا من تلك الأفكار إلي اختيار واستنباط آراء خاصة، وأن ندرسها دراسة منقّحة علمية مفصّلة.
ولتوضيح ذلك نقول: انّ الفقهاء عند ما ييشتغلون بعملية الاستنباط أو الإفتاء قد يتأثّرون في هذه الحالة بما يمتلكونه من أفكار مسبقة، وحيث إنّ التأثّر بالأفكار المسبقة ليس دائماً حاصلاً في إطار صحيح، فلا بد للدارس من دارسة هذه الأفكار وكيفية تأثيرها علي استنباطات الفقيه، حتي يتمكن من أن يعطي إلي آرائه وزنها اللائق بها.
وهذه الأفكار المسبقة الفاعلة في ذهنية الفقيه تختلف في ماهيتها وكانت علي أقسام:
الأول: الأفكار المسبقة الكلامية:
 هناك مبادئ هي كلامية في ماهيتها, اعتقادية في أساسها وهويتها، وهذه المبادئ قد تلعب دوراً جدياً إما في تكوين نظريةٍ أو مسألة ما، أو تشكيل منهجية خاصة، أو إضافة عنصر خاص في منهجية معينة.

الثاني: الأفكار المسبقة الفلسفية:
 هناك الكثير من المبادئ الفاعلة في ذهنية الفقيه فلسفية في ماهيتها وجوهرها وهويتها.
الثالث: الأفكار المسبقة الاجتماعية:
 قد تأخذ المبادئ جوهرها وأساسها من المجتمع، اقتصادية كانت أو سياسية أو ثقافية. فمثلاً الظروف الاقتصادية الخاصة التي يواجهها المجتمع مثلاً ـ سواء كانت ظروفاً صعبة أم مواتية ومناسبة ـ تنمو في أحضانها مبادئ خاصة للفقيه, فينطلق الفقيه من تلك المبادئ، ويطرح أمراً ما من دون أن يشعر بتأثره بتلك المبادئ المتأصلة في المجتمع.
لذا فإن علي الدارس أن يذهب إلى تلك الجذور ويدرسها، ليرى هل أن هذا المبدأ قد أخذ بشكل موضوعي في تلك الظروف, أو أنه تأثربها وليس له واقع إلا هذه الظروف؟ لأن المبدأ المتولد في أحضان الظروف الخاصة ربما يكون منطقياً، وإن كان مأخوذاً ومتولداً في ضوء تلك الظروف، وربما يكون محض تأثُّر بتلك الظروف وليس له واقع.

الرابع: الأفكار المسبقة الأخلاقية:
 قد يكون هناك مبدأ دُرس في الأخلاق، أو تم تولده في وضع وعلم أخلاقي خاص, فيترسب في نفس الفقيه، ويستقر في ذهنه، ومن ثم يلعب دوراً في عملية الاستنباط، ويوجِد توجيهات له للإفتاء بأمر ما.
إنّ العقائد الكلامية علي قسمين: فبعضها لا يخلف حالات كالرهبة والأمل والشوق والخوف وغيرها نحو الاعتقاد بالوحي، الاعتقاد بالملائكة  والاعتقاد بكذا وكذا ، وبعضها الآخر يخلق حالات من هذا القبيل في الفقيه .
وحينئذ نقول:  قد يقدم الفقيه أو العالم الأصولي علي الإعراب عن رأيه أو يبادر إلي تأسيس أصل تحت تأثير هذه الحالات والانفعالات الروحية الخاصة، طبيعي أنّ النتائج المتحصّلة في موارد من هذا القبيل – سواء كانت نتائج فقهية أو قواعد أصولية – ليست بمنطقية، أو علي الأقل لا ضمان علي كونها منطقية، فان مثل هذه النتائج بدل أن تكون مقتضي لمبادئ كلامية في إطار فكر منطقي ، ستكون مقتضي للانفعالات التي تتركها العقائد الكلامية علي روح الفقيه أو الأصولي .
بعبارة أخري: في هذه الموارد ، بدل أن تصاغ العقائد الكلامية وفقاض للبراهين فانها تقع تتحت تأثير ما ليس بعلم ، وفي هذه الحالة تفتقر النتائج إلي القيمة العلمية المرجوة ، فعلي سبيل المثال: لو ابتلي شخص ما بالخوف متأثراً باعتقاده بالمعاد فمال إلي الاحتياط في علم الفقه أو الأصول وجعله منطلقاً له، وفي هذه الحالة يكون قد استخدم اعتقاده الكلامي – من دون قصد – في غير مقتضاه الأساسي ومجاله المنطقي ، بل استفاد منه في نطاق نفسي وغير منطقي؛ حيث إنّ حالات مثل الخوف والرجاء ناظر إلي العمل، أي يجب الخوف وعدم ارتكاب المعصية في ميدان العمل، لكن الفكر لا ينبغي أن يتبلور متأثراً بالخوف . وبعبارة أخري صحيح أنّ المفتي لا بد من أن يكون علي الخوف فلا يفتي من دون علم ، غير أنّ هذا يعني أن يؤثر الخوف عليه في مقام العمل الذي هنا هو قيامه بالإفتاء، وليس يعني أنّه لو حصل علي أهلية الإفتاء وكان منبرياً له ، فكان عليه أن يتأثر بالخوف في استنتاجه العملي ، فيميل إلي الاحتياط ، بل أمكن القول أنّ هذه نفسه مصداق آخر للإفتاء بغير علم أو الإفتاء الحاصل علي أساس الإهمال للعلم.
وكشاهد علي ذلك نورد كلاماً لعالم من العلماء كان يكثر من العمل بالاحتياط :
" هل يجوّز أحد أن يقف عبد من عباد الله فيقال له : بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية ؟ فيقول: إن اشتبه علي شيء عملت بالاحتياط ، أفيزلّ قدم هذا العبد عن الصراط ، ويقابل بالإهانة والإحباط ، ويؤمر به إلي النار ، ويحرم مرافقة الأخيار؟!" [2]   
كما هو واضح كان تمسك هذا العالم بالاحتياط الشديد متأثّراًً باهتمامه بنار جهنّم والخوف منها.
ومن هذا المنطلق نقول : انّ الإكثار من الاحتياط  - والذي من جملة العناصر الفاعلة في منهجة استنباط الكثيرمن الفقهاء- أمر يضجّ الفقه منه جداً وسيما في موارد الإجابة علي مستجدات العصر ومتطلباته، وبما أنّ جذور الكثير من هذه الاحتياطات كمنت في التاريخ جداً، فلا بدّ للتخلص منها من قراءة تاريخ هذه الجذور.
وهذا يجعلنا نتأكد من أنّ ترك التاريخ علي ما هو عليه يعني ترك الفقه يسير سيراً صعباً ومتعرجاً، من غير ضمان في استمراره وسيره علي نهج موضوعي صحيح، وإنّ اولئك الذين تجيش في قلوبهم الشكوك في جدوي التعرف علي تاريخ الفقه، أنّ عليهم أن يعلموا بأنّ مفتاح حل الكثير من مشاكل منهج الاستنباط يكمن في قرائة تاريخ الفقه ومسائله.
والأفكار المسبقة للفقهاء الماضين – وطبعاً الفقهاء المعاصرين أيضاً – والتي يمكن رصدها من التاريخ علي أقسام، نشير إلي بعض منها:

1ـ الأفكار المسبقة في مجال صلة المصادر بالوحي:
والمقصود أنّه تختلف رؤية الفقيه حول صلة كل مصدر بالوحي, من حيث مقدار وميزان انعكاس الوحي في تلك المصادر وبلورة حقيقة الوحي فيها, فإننا لو تبنينا أي رؤية في ذلك المضمار فسوف تترك أثراً في تلك المصادر. من هذا المنطلق تأتي هذه الأسئلة :
- ما هي الصلة بين القرآن وبين الوحي؟ فهل أن أحدهما عين الآخر؟ أم أن هناك اختلافاً وبينونة بينهما ولو  بمقدار؟
طبعاً الرأي المعروف، والذي عليه الأدلة والبراهين القاطعة التي لا يمكن إنكارها, أن الوحي هو القرآن، والقرآن هو الوحي، من دون أي اختلاف وأي بينونة بينهما, بخلاف ما يطرحه المسيحيون مثلاً الذين يقولون بالبينونة بين الوحي والإنجيل، وأن الإنجيل من صنع البشر.
- وهكذا الحال مع السنة, فهل أن لها علاقة بالوحي, وما هو مقدار العلاقة بينهما؟
وما هي العلاقة بين السنة والقرآن, إن قلنا بأن القرآن وحي؟
وهل أن أدبيات السنة لها علاقة بالوحي, أم أنها أدبيات بشرية، وإن كان لمحتواها علاقة بالوحي؟
وهنا يأتي البحث الكلامي المعروف, وهو: ما هي مصادر السنة؟ أو ما هي المصادر المكونة للسنة؟
من أي مصدر أُخذ علم النبي الأكرم (ص)؟ فهل هو وحي أو إلهام؟
- ولو قسمنا السنة إلى التقريرية والقولية والفعلية, وطرحنا هذا البحث الآنف الذكر من نوعية العلاقة بين السنة والوحي في كل من هذه الموارد, فالرأي الذي نختاره بعد الفحص والبحث والتحقيق له تأثير في الفقه.

2ـ الأفكار المسبقة في مجال تعددية المصادر:
والأفكار المسبقة في هذا المجال عبارة عن الذهنيات الحاصلة حول الأسئلة التالية :
- هل هناك مصدر واحد؟ أم هناك مصادر متعددة؟[3].
- ولو كانت هناك تعددية، فما هو عدد هذه المصادر؟ فالشيعة يقولون: إنها أربعة، وأهل السنة يقولون: إنها خمسة أو أكثر، حتى بلغ الأمر لديهم إلى أنهم ذكروا أكثر من عشرة مصادر للتشريع.
- أننا لو قبلنا التعددية في المصادر، فما هي النسبة بين هذه المصادر؟ فهل كلها في عرْض واحد، أو إن بعضها كذلك، أو أن النسبة بينهما طولية؟

3-  الأفكار المسبقة في مجال قابلية القرآن للفهم
وهذا البحث هو بحث أصولي معروف اختلف فيه الأخباريون والأصوليون, فذهب الأخباريون إلى عدم إمكانية فهم القرآن, وذهب الأصوليون إلى الإمكان, وحاول كل طرف أن يثبت مدعاه.
 ليس الاختلاف بين الأخباريين والأصوليين حول هذا المبدأ اختلافاً يسيراً, بل إن كل اختلافهم ناشئ من الاختلاف في هذا المبدأ, وكذلك بعض المبادئ الأخرى، ولكن هذا هو المبدأ الأساسي لوقوع الخلاف بينهما.
فقد كان المتطرفون من الأخباريين يقولون: إن القرآن ليس قابلاً للفهم أصلاً, حتى النص منه, وبعضهم يفكّك بين الظاهر والنص, فيقول: إن الظاهر هو الذي لا يمكن فهمه، أما النص فهو قابل للفهم. أما الأصوليون فكان بعضهم يقول: إن القرآن كله قابل للفهم, وبعضهم يقول: إن بعض القرآن قابل للفهم بشكل مباشر, وبعضهم يقول: لا يمكن فهم القرآن مباشرة، بل لا بد أن نستفيد من أداة، والسنة هي تلك الأداة, أو بتعبير آخر: السنة عبارة عن طريق يوصلنا إلى فهم القرآن[4].
4-   الأفكار المسبقة في مجال سعة وضيق دائرة آيات الأحكام:
هناك رؤيتان مختلفتان في مسألة الرجوع إلى القرآن الكريم من جهة السعة والضيق: إحداهما تقول بالسعة والأخرى تقول بالضيق, وكمثال على ذلك عدد آيات الأحكام, فقد كان الكثير من أهل السنة في البداية يعتقدون أن آيات الأحكام محدودة, وكانوا يقولون أحياناً بأنها خمسمائة آية, وبعضهم يقول بأنها أكثر أو أقل.
وتحديد آيات الأحكام وتعدادها كانت في البداية فكرة سنية, ولم يكن الشيعة يقولون بها, إلا أنها انتقلت إلى الشيعة أيضاً, فكان بعضهم يقول بأن عددها خمسمائة أو أكثر أو أقل.[5]
وهذه من المبادئ المؤثرة في الفقه, لأنك عندما تعتقد أن آيات الأحكام محدودة فسوف لا ترجع إلى القرآن الكريم في أكثر من ذلك الحد.
فتحديد آيات الأحكام وعددها، وتوسيع دائرتها، من المبادئ المؤثرة في الرجوع إلى القرآن.

5- الأفكار المسبقة في مجال أصل مصدرية السنة
هناك مبدأ يقول بأن القرآن مُبيَّنٌ تماماً, ولو أخذنا بهذا المبنى فسنكون في غنىً عن السنة.
وهناك مبدأ آخر يقول بأن السنة التي بين أيدينا هي ليست تلك التي صدرت عن النبي الأكرم(صلي الله عليه وآله)؛ لأنه قد مرّ علينا تاريخ طويل، ولسنا متأكدين بأن هذه هي تلك نفسها. وعليه فلا بد من دراسة هذا السنخ من المبادئ.
وكان في زمن الإمام الشافعي من يقول: إننا لا نعتبر للسنة وزناًً؛ لأنها إن كانت شارحة للقرآن, فالقرآن بيان في حد ذاته, فكيف يمكن شرح ما هو بيان؟
وهذا سؤال مهم جداً, فنحن نعتقد بأن السنة شارحة للقرآن, ولكن لا ينبغي أن نترك هذا البحث المهم, فإذا كان القرآن بياناً فلماذا تكون السنة شارحة له؟
وبالتأكيد فنحن بحاجة إلى السنة, إلا أن المشكلة هي أننا لا توجد لدينا نظرية حول كيفية العلاقة بين السنة والكتاب, الأمر الذي يوجب على فيلسوف الفقه البحث في ذلك, فالكثير من الأمور الخلافية بين الفقهاء ترتبط بمسألة ارتباط السنة بالقرآن.
لقد كان الأخباريون مثلاً، يقللون من الرجوع إلى القرآن ويتوسعون في الرجوع إلى السنة, وبعد انحسار تأثيرهم،  سيطرت رسوبات فكرتهم على الفكر الأصولي, ونحن نلاحظ أن هناك فصلاً بين رجوعنا إلى القرآن عملياً، ونظريتنا حول الرجوع إلى القرآن, إذ إننا نعتقد نظرياً بضرورة الرجوع إلى القرآن, لكننا لا نرجع إليه من جهة عملية إلا قليلاً, بل حتى نظريتنا حول القرآن ليست نظرية منقَّحة، بل هي بحاجة إلى تنقيح, وهذا مجال لم ندخل فيه إلا قليلاً، وهو بحاجة إلى بحث فلسفي عميق جداً.
وعليه فنحن بحاجة إلى الكشف عن أفكار الفقهاء في هذا المجال عند ما نجد فتوي منهم ولا ندري أنهم انطلقوا من أي رؤية في مجال رابطة السنة مع القرآن إلي هذه الفتوي؟

6- الأفكار المسبقة حول موضوع الحكم:
هناك أفكارقد توجد وراء موضوع الحكم، وهي كامنة في ذهن الفقيه وليست بارزة.
ومن هذه المبادئ الشائعة، أن الفقيه لا شأن له بالموضوع، ولا صلة له به, وكثيراً ما يُسأل الفقيه عن أمر مرتبط بموضوع الحكم, فيجيب بأن مهمته الإفتاء والحكم، لا بيان الموضوع، فإنه موكول إلى المقلد.
وهذا المبدأ لا يبقى بلا تأثير في الفقه ومنهجيته وتمكن الفقه من الإجابة على متطلبات العصر، فهذا المبدأ رغم أنه يبدو كونه بسيطاً ولا صلة له بالاستنباط, إلا أن تأثيره في مصير الفقه والإفتاء عميق, بل حتى في الدين نفسه؛ لأن الدين أشبه ما يكون مرهوناً بالفقه, والفقه بدوره مرهون بهذا التصور الخاطئ.
ويقابل هذا المبدأ, مبدأ آخر، وهو أن الموضوع داخل في عملية الاستنباط وربما يكون الاستنباط في الموضوع أصعب من الاستنباط في الحكم.
ولا يُعترض على ذلك بأن مهمة الشارع بيان الحكم لا الموضوع؛ لأن جوابه:
أولاً: إن بعض الموضوعات مستنبطة.
ثانياً: صحيح أننا لا نستنبط الموضوع, ولكننا نريد أن ندرج موضوعاً ما تحت مناط شرعي, والمناطات بحاجة إلى فهم وكشف واستنباط, وسيما في المسائل المستجدة.
وقد تشكلت التجربة الفقهية على أساس استنباط الحكم, وأما استنباط المناطات وكشفها، ولا سيما تطبيق المناطات على الموضوعات المستجدة، فنحن لا نمتلك تجارب واسعة وجيدة في ذلك, لذا يبدو أنه عمل شاق جداً.
ولو سلمنا أن الموضوع لا يُستنبط, ولكن مع ذلك يمكننا إدراجه في عملية الاستنباط؛ لأن عملية استنباط الحكم متوقفة على الاجتياز والعبور من محطة الموضوع, وهذا متوقف على فهم الموضوع فهماً جيداً دقيقاً, وعليه ففهم الموضوع مقدمة لعملية الاستنباط, فهو إذن داخل فيها.
وبتعبير آخر: إن فهم الحكم محال بدون فهم الموضوع, إلا أن نتورط في جهل أو إشكال أو توهم, أو نقول بأن الموضوع لو كان كذا فحكمه كذا، ولو كان كذا فحكمه كذا, فنشقق المسألة كي نتخلص من المشكلة, وإلا فإن ذلك ليس فهماً للموضوع، بل فرض تصورات, ولا بد للفقيه أن يفهم الموضوع بشكل دقيق.
والذي أوجب تكوّن ذلك المبدأ الأول، القائل بأن الفقيه لا صلة له بالموضوع، عدة أمور, منها الظروف السائدة سابقاً في المجتمعات الساذجة والبسيطة, فلم يكن آنذاك ثمة موضوع معقد بحاجة إلى الرجوع إلى المتخصصين, بل كانت الموضوعات بسيطة، حيث إن الفقيه يدرك بشكل سريع ماهية الموضوع, لأن الموضوعات كانت عرفية، وهو من العرف، وبالتالي فإنه يفهم كما يفهم العرف, ولذلك تكوّنت هذه الذهنية، بأن هذه الموضوعات عرفية، ولا يهمنا فهمها إلا في موارد قليلة.
غير أننا نواجه حالياً موضوعات معقدة، بعضها يرتبط بالعلوم الاجتماعية أو النفسية أو الاقتصادية أو السياسية أو غير ذلك, فما دمنا لا نمتلك معرفة بماهية هذه الموضوعات، فكيف يمكننا أن نقوم بكشف حكمها؟ فلا بد أن يتشخص الموضوع أولاً ويتبين،  لكي نستطيع استكشاف حكمه, وهذا أمر منطقي وبديهي.
وهنا لا بد من الإشارة إلى نكتة مهمة، وهي أنه ربما يحصل الخلط بين الموضوع والمصداق, وما لا يهم الفقيه النظر إليه هو المصداق لا الموضوع, وبما أن الموضوع كان يذكر قديماً، ويراد منه المصداق، فلم يتحقق الفصل بينهما، فكان حكم المصداق يعتبر للموضوع. نعم، إن الفقيه لا صلة له بالمصداق، ولكن الموضوع شيء آخر, فمصاديق الموضوع غير الموضوع نفسه, والموضوع هو ما يريد الفقيه أن يستنبط الحكم له.
وعلي أي حال يهمنا الاطلاع عن رؤية الفقيه - والذي نريد أن ندرس رأيه في ضوء الخلفيات المحيطة بالرأي- حول هذه القضية.


1- الرسائل الأصولية، للوحيد البهبهاني :87 و 88 .
2- الرسائل الأصولية للوحيد البهبهاني : 377.
3- لا يخفى أن الشيعة والسنة متفقان على التعددية.
4- هداية الابرار ،كركي: 304 . 
5- راجع:(المستصفي: غزالي، ج 2: 350)،( مبادئي الوصول الي علم الاصول، حلّي: 242)
منبع:

تاریخ خبر: 1390/3/19 پنجشنبه
تعداد بازدید کل: 3857 تعداد بازدید امروز: 2
[Part_Lang]
[Control]
تعداد بازديد اين صفحه: 3858
خانه | بازگشت | حريم خصوصي كاربران |
Guest (PortalGuest)


Powered By : Sigma ITID